عبدالله السلايمة
ها هو الموت يصر على الاستمرار في متعة قبضه على أرواح ليست ككل الأرواح في عمقها وثقلها،فما كاد ت قلوبنا تبدأ في التعافي من رجتها إثر رحيل الروائي خيري شلبي منذ عدة شهور ، ونحاول الشروع في لملمة جراحنا،وإعادة ترتيب أوراق حياتنا بنوع من التكاسل ،حتى كادت صدمة خبر اختيار سيد الموت عزرائيل هذه المرة لفيلسوف البسطاء الروائي إبراهيم أصلان تقتلع قلوبنا من جذورها حزناً على فراقه هو الآخر،ليتوقف جريان نهر إبداع متفرد لطالما اقتتنا عليه.
لعل في رحيل أصلان المفاجئ حكمة ما تتجاوز إدراكنا المحدود،لكن ما ندركه أن رحيله أضاف لخساراتنا فجيعة أخرى مركبة، ووجع يزداد عمقاً،وكأنه لا يكفينا ما نعيشه بشكل يومي حتى الثمالة على أصداء أخبار الموت والتخريب والعبث والتآمر..، حتى باتت خلفية وجداننا بلون الالتباس والسواد..
من حوارها مع جمانة حداد ، قالت الشاعرة الأمريكية ريتا دوف:"أؤمن أن أصعب الأمور هي أن نتحدث عن الأشياء البسيطة في حياة الناس اليومية: تلك هي أرقى التعابير الوجودية وأدقها، تلك هي التيمات العليا الحقيقية. أن نتحدث عن فيلسوف أسهل بكثير من أن نتحدث عن عاملة التنظيف في الشارع أو عن بائع الخضر الذي لا يملك ما يكفي من المال ليشتري دراجة لابنه في عيد ميلاده. فيم تفكر هذه العاملة،وكيف يعيش ذلك البائع،وبم يحلمان؟ ذلك هو الموضوع الشائك"،وهذا ما اعتقد أن فقيدنا أصلان نجح بامتياز فى رصده لحياة البسطاء،وآليات تعاملهم مع ما يواجههم من مصاعب حياة،اتسمت بشظف العيش وضيق ذات اليد،فقد استطاع إبراهيم أصلان فيلسوف البسطاء،وكاتبهم الساخر،وعاشق تفاصيلهم، ولغتهم وحواراتهم، أن يصور أدق تفاصيل حياتهم بدقة شديدة،خاصة فيما يتعلق بحياة أهل منطقة الكيت كات، حيث عاش فيها حتى أواخر عمره،تلك المنطقة المواجهة لشاطئ النيل بحي إمبابة، وبالتحديد في شارع فضل الله عثمان الذي خصه بكتاب من كتبه السبعة،وخلق من عالم إمبابة عوالم خاصة رسمها بقدرة إبداعية فائقة،بدت واضحة لنا في أعماله الأخرى:" بحيرة المساء ،"خلوة الغلبان" حيث خرج على تقاليد كتابة الستينات،و" شيء من هذا القبيل"،و"عصافير النيل"،و"مالك الحزين" التي نقلها المخرج داود عبد السيد عام 1991 للجمهور عبر فيلم «الكيت كات»، كإحدى أيقونات السينما المصرية.
لم يحتمل قلبه الضعيف البعد عن النيل ،فلما انتقل الى المقطم مات ،تاركاً لأهل إمبابة كتباً حوت أدق تفاصيل حياتهم،ولنا إرثاً إبداعيا،كان كافياً رغم قلته على إشباع جوعنا في زمن لم يعد يطفو على سطح أيامه غير كل سطحي وغوغائي وغث ..
لو كان الإبداع كما يعتقد الكثيرون بالكم،لكانت كتابات أجاثا كريستي أهم من كتابات شكسبير، لكن الأمر بالنسبة لأصلان كما قال في أحد أحاديثه لم يكن كذلك،فهو لا يعرف أن يتعامل مع نفسه وكأنه ماكينة كتابية ،وهذه الحالة ليست حكرا عليه فقط ، فهي ظاهرة عالمية، فماركيز مثلا بكل أهميته هذه لم يتجاوز عدد رواياته سبع روايات، وهمنجواي ست روايات.
وليس لقناعته الشديدة فقط بأن الكتابة لابد أن تكون تلبية لاحتياج داخلي عند الكاتب،ما يؤدى لأن تلبى احتياجاً لدي من يقرؤها،بل لقناعته أيضاً بأن الوفرة في الكتابة لم تكن هي معيار القيمة،ولأنه كان يكتب بألمه ولا يكتب عنه ،لم ينجز عبر عمره الأدبي الذى امتد لأربعين عاماً غير سبعة أعمال قصصية وروائية،ترجم منها ثلاثة أعمال الى خمس لغات عالمية:" بحيرة المساء،ومالك الحزين،وعصافير النيل"،وحاز من المكانة الأدبية ما أهله للحصول على بعض الجوائز ،مثل:" جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية "مالك الحزين" عام 1989،وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2003ـ 2004،وجائزة كفافيس الدولية عام 2005،وجائزة ساويرس في الرواية عن "حكايات من فضل الله عثمان" عام 2006.
ولم يمنحه سيد الموت فرصة ليتوج مسيرته الإبداعية بجائزة النيل الرفيعة، التى لا تمنحها أكاديمية الفنون المصرية إلا لمن هو جدير بها مثل فقيدنا إبراهيم أصلان ،وفجعنا عزرائيل في مساء السبت السابع من يناير 2012بقبضه على روح أصلان النقية ،ليضيف إلى رصيد خسارات الساحة الثقافية العربية مبدعاً،يعد بحق من أبرز روائييها .
رحم الله المبدع إبراهيم أصلان الذى لم ينحني في يوم ما إلا أمام بهاء النيل،ورفض بشدة الانحناء أمام مبارك المخلوع ،الذى أغواه غروره ،وصورت له أوهامه، أنه يمتلك كل ما على أرض النيل العظيم ، وما تحت سمائه النضرة من عصافير،ولم يلبى دعوته للقائه مع بعض المثقفين في سبتمبر 2010فى قصره المنيف،لإدراكه العميق أن ذلك المخلوع لم يكن يهدف من وراء دعوته للمثقفين غير محاولته تجميل وجه نظامه القبيح،لذا لم يفاجئنا أصلان في تأييده لثورة 25 يناير المجيدة التى أسقطت نظام المخلوع وزبانيته في لحظة استثنائية من تاريخنا ، ليضيف إلى رصيد مواقفه التاريخية موقفاً لا يصح ـ فى اعتقادى ـ للمبدع أن يتخذ غيره .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق