الأحد، 24 فبراير 2013

مجتمع البادية .. إرهاصات التحول





قراءة في المجموعة القصصية" أشياء لا تجلب البهجة"
 للقاص عبدالله السلايمة
يوسف الشاروني
..............................................................
هذه المجموعة القصصية " أشياء لا تجلب البهجة" للكاتب عبدالله السلايمة تتميز بنكهة بدوية تشتبك مع غزو المدينة للحياة الصحراوية. وتنبهنا إلى أن التطور الحضاري الذي غزا الصحراء، أثار صراعاً في لحظات التحول بين الأجيال، يتواري فيه حسن الآفل أمام حسن الحضارة المتسلل، هذا الصراع هو محور معظم قصص القسم الأول من المجموعة وعنوانه "بدويات". فتتناول قصة" الآخرون"الغزو الحضاري في عقر البيئة الصحراوية، حين يكتشف زعيم القبيلة الذي وافق أولاً على زواج ابنه من حضرية، ثم ندم - في لحظة تحول غير مكتملة، لأنها ما تزال في إرهاصاتها.
وما تزال القضية نفسها محور قصة"دعوى لا تحتمل التأجيل"، والخلاف نفسه بين الجيلين، خلاف ينبئ عن مسيرة التطور الحضاري واتجاهه، من خلال ثورة جيل الأبناء على الأوضاع الاجتماعية الغاربة لجيل الآباء.
عبدالله السلايمة
 أما قصة "إنهم لا يفضلون الغرباء" فيصبح الوضع مقلوباً: الأب يؤيد التحاق ابنته بمدرسة التمريض، بينما أخوها هو الذي يعارض، ويهدد منعها بالقوة، مما اعتبره الوالد إنذاراً للإطاحة بسلطته.
ويختلف مسار قصة "رغبة عدوانية" عن سابقاتها حيث أُرغمت "زهرة " على الزواج من "فالح" أول طارق لبابها، عقاباً على لقاءاتها المسروقة مع حبيب لا ينتمي إلى قبيلتها.
أما قصة "للماضي أبعاد أخرى" فهي قصة عالمية بلغات مختلف الشعوب، فقد سبق أن قرأنا قصة صينية عن ابن يحمل أباه ليلقيه في أحد الملاجئ, فإذا بالأب يضحك, وحين سأله ابنه عن سبب ضحكه، كانت إجابته أنه فعل الأمر نفسه مع أبيه (جد الابن) عندما كان شاباً, وإن ابنك سيفعل الشيء نفسه معك عندما تشيب. وقصة عبد الله السلايمة لا تختلف كثيرا عن قصتنا الصينية إلا بميزتين: أنها منتزعة من البيئة البدوية, ثم مفرداتها البلاغية المعبّرة عن جو المأساة في مثل هذه العلاقات المنطفئة الأبوية البنيوية.
ويتلاقى فى قصة "خطاب ناسف" كما يتلاقي في معظم قصص المجموعة التحفظ الصحراوي مع انفتاح الحياة المدنية. هجائية إبداعية من ساخر ثائر على تقاليد قومه البدوية، متنبئاً ومعلنا أفولها, وهو أحد دوافع إبداعه، وأحد مظاهره، وأحد مشاركاته في تحقيقها.
وتعتبر  قصة "الوديعة" موضوع عالمي محوَّر من البيئة الزراعية إلى البيئة الصحراوية.
أما قصة "أحزان جائعة" فأحداثها الممتدة في الزمان صرّها مبدعنا داخل نفسية امرأة من يوم أجبرها أبوها على الزواج بابن عمها الأرمل الذي تركت له زوجته المتوفاة طفلاً, كما باغت العسكر أباه ذات ليلة واعتقلوه, وقد حاصرتها "أحزان جائعة قادمة من وحشة صحراء منحتها مخيلة موحشة مستوحشة" (ص42)، وتختُتم قصتنا حين نصحو مع بطلتها لنكتشف أنه كابوس عانيناه معها، مستمد من كابوس يقظتها، لا يعرف القارئ أين ينتهي أحدهما، وأين يبدأ الآخر.
وواضح أن قصة "عيون ثعلبية " قصة رمزية بدءاً من اسم شخصية "إسراء" التي من الواضح أنها مجتزأة من "إسرائيل" ومحاولتها استماله مشايخ المنطقة (سيناء) بالمال, لكن المشايخ الجدد لم يكونوا أقل مقاومة، فقد رفضوا تدويل منطقتهم، "وأن إسراء ما هي إلا مخادعه ومعتدية" (ص46). وهكذا يستوحي عبد الله السلايمة قصصه من مختلف قضايا منطقته المتميزة بطبيعتها الجغرافية والتاريخية والبيئية، وحراكها الاجتماعي والسياسي، مما يُعد إضافة حقيقية إلى إبداعنا الأدبي المصري.
الجزء الثاني من المجموعة يبدأ بقصة"استباحة" يقدمها لنا ضمير المتكلم الذي لا نعرف اسمه، ولكن نعرف اسم ضيفه الثقيل "قاسم"، الذي يستفسر منه عن حلم حياته, وهنا نجد أنفسنا أمام تنويعة مختلفة من القص موضوعه التأمل الفكري .
 مرة أخرى وقفة فكرية صّرها الكاتب السلايمة في كبسولة درامية, تلك هي قصة "ضربة استباقية " التي تقدم بدورها موضوعها، حول تطورات ثقافية في تلك البيئة الصحراوية، التي تتحرك في إطارها أحداث المجموعة.
قصة "دعني أحبك" نتلقاها من راويها عن بطلها "عارف" الذي ندرك منه أنه يتأرجح بين الجنون والعقل، وهي منطقة إنسانية اختارها مبدعنا، ليقدم لنا ما لا يمكن تقديمه من شخصية عاقلة تماماً أو مجنونة تماماً، فهو أقرب إلى أبله دستويوفسكي في روايته المشهورة يجرؤ على أن يفضى بحقائق لا يجرؤ أن يفصح عنها العقلاء.
ونهاية، تحية للمبدع عبد الله السلايمة على مجموعته القصصية " أشياء لا تجلب البهجة" التى تعد بحق إضافية إلى إبداعنا الأدبي المصري المعاصر، والتي تبرز أحد أضلاعه التي تستحق الالتفات، فهذه المجموعة ليست إلا "عينة" من قمة جبل الإبداع العائم في تلك المنطقة قصة ورواية وشعراًً وربما مسرحاً .











السبت، 3 مارس 2012



"أشياء لا تجلب البهجة"
علاقـات نصيـة
د. رمضان الحضري

ربما يكون تناول مجموعة " أشياء لا تجلب البهجة" للقاص عبدالله السلايمة، طبقاً لرؤية عربية للنص الأدبي نظرية جديدة، فكثير من الأفكار تمهد أو تكون اختراعاً، ولا يدرى المستخدمون لها.
والعلاقات النصية، أقصد به فهم النص من خلال شبكة العلاقات المكونة للنص،من مفردات لغوية تحولت إلى عوامل نصية،ومن جمل مركبة " متواليات نصية" ومن تشكيلات جمالية،وتقنيات تناول " الإيقاع النصي"،وبالتالي سوف أتناول عبر المجموعة إلى : العوامل النصية وإعادة التوظيف  ـ المتواليات النصية بين النحو والنص ـ الإيقاع خصوصية وتقليد.
أولاً:  العوامل النصية وإعادة التوظيف : تأتى مجموعة "أشياء لا تجلب البهجة" للقاص والروائي عبدالله السلايمة لتقدم نصاً يجمع بين الموهبة والاحتراف،ويقوم بتحويل الى عوامل نصية،تؤدى وظيفة جديدة،ومن منطلق( نظرية العلاقات النصية) فإن تناول مجموعة قصصية فى مقال أو بحث مختصر غنما هو هدم للنص،وعدم فهم لماهية النقد، حيث أن الجدل بين النقد والنص،هو علاقة المريد الذى يبغى الوصول إلى المحال.
والحديث العام عن القصص،إنما هو منهج غير عربي،فالعربي يحب لغته،ويدعو إلى الإيجاز وهو يفصل، وبالتالي سوف اكتفى بقصة واحدة من المجموعة ،ترى أن هذه القصة تجمع المحاور العامة لفهم القاص عبدالله السلايمة لماهية القصة القصيرة،فالكاتب هنا لا يكتب القصة للتسلية،أو ليبرز معاناته الشخصية،أو ليسجل واقعاً كان أو آنياً،إنما الكتابة عنده نوع من الرصد للابتكار،يرتبط هذا الرصد بالواقع بنسب مختلفة،وأحداث تحيا وتموت،ولكن يصر الكاتب على أن واقع قصصه فى ساحة الأوراق ،وزمانه فى لحظات القراءة ،والمدى متصل حسب التفكير والتأثير.
وتأتى أهمية السلايمة من مخالفة لما يسمى بقوانين الكتابة،فالقصة القصيرة قالوا ومضة،ودوامة فى النهر، وصورة مركز من ألبوم كبير،أو دقائق من فيلم طويل،خالف عبدالله السلايمة كل لك ، واعتمد على تقنيات اللغة فى وصف فيمتو ثانية لإحساس،والتدقيق فى حركة الشعور،وحالات التنامي فى الفكر الناتج عن وجدان مدرك ليأتي النزوع إلى النتائج مسبباً وغير متجانس،وتتوافر المقومات للمفردة لتصبح عاملاً فى النص،مثلاً يقول الكاتب فى قصة " استباحة": ( في ركن من تلك المساحة الضيقة التي تفصل مابين مقهى"العروبة " والشارع المكتظ بالعربات والمارة، اتخذت لى مكاناً،اعتقدت أنه يحفظ لى استقلالي،ويسمح لى باستراق نظرات عابرة لفتيات ونسوة يقطعن الشارع، وجلست مستسلماً لإغواء خيالي، يحلق بى عبر فضاءات أحلامي الجوعى حيناً،وحيناً آخر يعيدني لواقع،زاد من مرارة قسوته مجيء " قاسم".
" كالعادة وبلا استئذان،وبنفس التقطيبة سحب كرسياً وجلس فى مواجهتي ،ودون أن يلقى علىّ بالتحية،قال بنبرة دائن ينتظر رد دين مستحقاً : "عاوز أشرب شاى". " فى محاولة يائسة للتخلص منه،أشرت على الفور إلى النادل،فجاء بعد لحظات بكوب الشاي،وضعه بيننا ،ثم انصرف لشأنه،بينما أجبرت على مبادلة"قاسم" ثرثرة فاترة،لم يقطعها غير سؤال مباغت، ألقى به مثل قنبلة انفجرت فى وجهي ،قائلاً:بم تحلـم؟!
ثم استند بمرفقيه إلى الطاولة،مستمتع بمظهر الحيرة البادية على وجهي من سؤال اخطبوطى لم انتظره.
اجتهدت أغالب انفعالاتي،فيما كان يستنفر حواسه مصغياً.
حطت حشود غربان أوجاعي على الطاولة أمامي ،من بينها تناولت بيد مرتعشة فنجان قهوتي "السادة"، شربت منه رشفة،نظرت بعيداً حيث الفراغ اللانهائي،أحاول انتزاع روحي المغمورة بخيبات آمال بالغة،من قلب عتمة تواصل فرض حصارها حولي..، وفى حالات مماثلة لمثل ما أنا عالق بها،تنجح فى إحكام قبضتها على عنقي،فأكون حينها قادراً على القتل .
اقتلعني صوته البغيض من دائرة التفكير فى الإقدام على ارتكاب جرم لا أسعى إليه،وهو يحثني لمواصلة حديث مللت مسايرته فيه ،لكنه ما لبث أن أعادني إلى جوف تلك الدائرة ،بإصراره بشكل مستفز على ضرورة سماع إجابتي على سؤاله .
فأجبته فى أسى بالغ ،قائلاً:
ـ أحلم ببحر، على شاطئه أجلس، وإذا ما مللت البوح وملني، أتحرر من ملابسي، وفى عرى كامل انطلق ركضاً عبر اتساع الصحراء..
وكأنه يستدرجني لقتله بالفعل،قطب حاجباه،وأخذ ينظر إلىّ بشيء من الاستغراب،راسماً على جبينه تعابير استنكار،ثم قال بصوت حملت نبرته اتهام صريح بمدى تفاهة أحلامي،وسطحية تفكيري:
ـ أهذا كل ما تصبو إليه ؟!                  
وحالت نظرات زبائن المقهى التى تحاصرني دون تحقيق رغبتي الجامحة فى قذفه بكوب الشاي،وأجبرتني على التحكم فى زمام غضبى .
حاولت التقاط أنفاسي المرهقة،ثم أجبته فى احتقان مفعم بالسخرية، قائلاً: والكارثة ـ يا هذا ـ ليست فى بساطة أحلامنا،بل فى عجزنا التام،وفقداننا الشجاعة على تحقيقها..! )
الاستباحة هى مطلب أباحه غير المباح،فهي انتهاك للأعراف والقوانين بعد الشرائع،إذن فالكاتب سوف يتجادل حول أحداث وأشخاص مخالفة للشرائع والأعراف والقوانين . فما هي؟! لا شيء...،إذن تحولت مفردة استباحة إلى عامل فى النص،حيث أنها تخلت عن معناها الرئيس فى اللغة لتأخذ معنى جديداً،لا يمكن الكشف عنه إلا بعد تناولنا للعوامل النصية والمتواليات والإيقاع،لتبين لماذا استباحة؟..
يمتلك السلايمة من القدرة الإبداعية والإبتكارية ما يؤهله للخروج من عبادة التنميط،لكنها رهبة التجديد،والخوف من هجامة النقد المعلب،والمتفيهقون فى الاستيراد .وهذا ما دعاه للبداية بالتقليد قى وصف المكان،وعلى الرغم من محافظته على التفكير النصي،إلا أنه يختار العوامل التى تجعله مبتكراً من القاع،إلى أعلى موجة فى المحيط. ( فى ركن من تلك المساحة الضيقة التى تفصل ما بين مقهى العريش والشارع المكتظ بالعربات والمارة)هذه متوالية أولية،حرص فيها على التقليد لأسباب سالفة،وبين التناقض بين مقهى العريش كمكان ، والعربات المارة كمنفصلين عن المكان . أو مستجدات طارئة لكنها تقيم علاقة الاتصال / الانفصال ،ويمكننا ملاحظة ذلك من العوامل ( المسافة الضيقة ـ تفصل ـ ما بين مقهى العريش والشارع ... ).
واستخدام القاص للعوامل الحرفية على سبيل المقارنة مرة،على سبيل التتابع أخرى. فحرف " الواو " جاء للمباينة والمقارنة فى ( ما بين مقهى العريش ة والشارع)،ونفس الحرف جاء للتتابع فى ( العربات والمارة).
( اتخذت لى مكاناً ،اعتقد ت أنه يحفظ لى استقلالي ،ويسمح لى باستراق نظرات لفتيات ونسوة يقطعن الشارع)،الاتخاذ هو التكلف فى الأخذ،بمعنى الاجتهاد والتفكير والمحاولة والاختيار، وبالتالي فهو غير المعتاد والملتزم به . وتأتى العوامل متعالقة ببعضها البعض ،فالاتخاذ سبقه اعتقاد فى الفكر وتأخر فى المتوالية،من باب تقدم النتائج لأهمية الأسباب،فالعامل اعتقدت مرتبط بالعامل اتخذت . والعامل يحفظ مرتبط بالعامل مكاناً ـ وكذا العامل يسمح،اما العوامل الأخرى(فتيات ـ نسوة ـ يقطعن)فهي مرتبطة بالعوامل فى المتوالية الأولى (الشارع المكتظ).وهكذا يعتمد القاص على انصهار واندماج العوامل ليصبح الناتج نصاً بإحداثيات جديدة،يتمكن فيه من إقامة رؤوس لجسور سرد عربي جديد . فهو يعتمد الإمكانات التقليدية لصناعة نص جديد،واعتماده لهذه الإمكانات من باب انتاج معدن جديد من مكونات قديمة بنسب مختلفة عما كان يستخدمه السابقون.فمثلاً من المعروف أن الفعل يزيد تعدد الأحداث ،ويزيد من سرعة عجلة السرد،وحينما يكون القاص له القدرة على استخدام الفعل بنسب أكبر من الاسم والحرف،وهذا ما دمره السلايمة بالكلية،حيث أنه عدد الأحداث، وزاد من سرعة السرد ،وضيق الحدود فى استخدامه للفعل،فالنص الذى ذكرته سابقاً من قصة (استباحة)من قوله:"فى ركن من تلك المساحة.. إلى قوله:الشجاعة على تحقيقها)..يشتمل على النسب التالية: نسبة الاسم إلى الحرف 3:4 تقريباً،ونسبة الحرف إلى الفعل 1:3 تقريباً،ونسبة الحرف إلى الفعل 1:2 تقريباً،زيادة نسبة الفعل تزيد حركة السرد،إذن قدرة القاص على تحويل المفردات إلى عوامل جديدة فى النص تجعل المقاييس النقدية الثابتة، وبخاصة المعلبة والمستوردة لا جدوى لها،حتى لو كان المتكلم بها من هو!!
ـ  المتواليات النصية بين النحو والنص: ويقصد بها طريقة تتابع العوامل،وكيف استطاع القاص عبدالله السلايمة إعادة توظيف العوامل النصية لتكون متوالية على نسق جديد،لا تتشابه مع المتواليات فى نصوص أخرى،ولا فى النص الموردة فيه،وفى ذلت الوقت متعالقة مع غيرها من المتواليات أو العوامل الكبرى التى يقامر النص على إبرازها.
وقد استطاع السلايمة أن يصنع مجموعة من المتواليات المنتجة للنص،والمحافظة على تنسيق التقنيات الإيقاعية بمنظومة متكاملة،وقد سقت مقطعاً يقدم المنتج فيه ثماني متواليات نصية، يتخللهم حوار،استباح كل الحريات الشعورية والحسية،والانفعالية،فيصور الكاتب سارداً بضمير المتكلم(أنا)،ومتحاوراً بضمير الغائب(هو)،وعند تقديم الحوار يصبح الضميران(أنت).وتبدأ المتوالية الأولى (بالعامل النصي في)،والبدء بعامل من الحروف تعنى أن هناك(عاملاً نصياً،أو عدة عوامل نصية)قد حذفت،هذا من باب صحة النحو عند العرب.فالبدء في المتوالية الأولى بعاملين في النحو (جار ومجرور)إحالة القارئ إلى متعلقات سابقة، وهنا يسمح الكاتب للمتلقي بأن يشاركه صناعة النص، وتصبح عدد المشاركات بعدد الذين تلقوا هذا النص.
وقد استفاد القاص السلايمة من إمكانات البلاغة العربية القديمة،وخاصة فى باب (التقديم والتأخير)،وجاءت الاستفادات فى السرد والحوار،فعلى سبيل المثال يقول سارداً: (سدت محاجري بالدموع)وهنا من باب تقديم المفعول على الفاعل،فلم ينتبه الكاتب للدموع إلا بعد أن سدت محاجره،وكان هذا سبباً صحيحاً ،لتأخير كلمة الدموع،حيث أنها المسئولة عنه .
وفى الحوار): أحلم ببحر على شاطئه أجلس)فهذا من باب فصل الصفة عن الموصوف،والجملة تركيبها الطبيعي حسب التراتب النحوي (أحلم ببحر أجلس على شاطئه)،لتصبح جملة (أجلس) وصفاً للبحر،حسب القاعدة النحوية( الجملة بعد النكرات صفات،وبعد المعارف أحوال)،فتأخير كلمة الصفة(أجلس)،من باب بيان الغاية،فجاء الفصل بينهما وبين موصوفها(شبه كمال اتصال).
ثالثا:الإيقاع خصوصية وتقليد:
حينما يهتم البحث بالإيقاع ،فأنه لا يبنى على فراغ،ولا يتفق مع كل ما سبق،باعتبار أن الإيقاع هو تقنية التشكيل،والمنصح عن خطوات التراتب والإيقاع والانخفاض فى النص، كما انه المنظم لزمنية الأحداث،والمحور والمكان.
وقد استطاع القاص عبدالله السلايمة أن يخترع واقعاً،والأهم من ذلك،أنه استطاع أن يقنعنا بقبول هذا الواقع من خلال الإيقاع النصي المتراكب والشفاف،فهناك (مقهى العريش ـ فاصل بين المقهى والشارع ـ الشارع للفتيات والنسوة ـ الاستسلام للفكر السىء ـ دخول قاسم ـ جلوس قاسم أمامه ـ طلب الشاي ـ ثرثرة بالإكراه ـ سؤال قنبلة).
المحاولة الدائبة من الكاتب أن يجعل الأهداف غير معتادة،وتأتى النتائج كذلك غير مرضية،وكأنه يقول أن الخروج عن المألوف يأتي نتيجة ضد المطلوب.
فالجلوس على المقهى للاستراحة وتناول المشروبات،هو أراد أن ينظر إلى النسوة والفتيات،أنه يبحث نظرة رقيقة،ووجه ناعم،دخل عليه صديقه قاسم،أنه يحلم بكلمة تريح نفسه،وتخفف الوطء عن عقله،ألقى عليه صديقه بسؤال كقنبلة،إنه يريد التخلص من قاسم،كان السؤال اخطبوطى فابتلعه بكامله،الأفكار تكلمت بداخله وسمع صوتها،تناول رشفة من كوب الشاي ليثبت أن له قدرة على هذا الكوب فى أخذه ورده إلى مكانه.
هذا الصراع المحتدم بين الرغبة والنتائج المضادة لها،جعل غرفة النص فى مد وجزر محتدمين ،وارتفاع وسقوط متلازمين،مما جعل الإيقاع النصي مجموعة من الأصوات الرائعة،متناقضة فى أدائها ومع مستثيرات هذا الإيقاع يشعر المتلقي أنه يقرأ (قصة قصيرة)عادية جداً.
رغم أن الكاتب قد حملها من فقه التضاد ما لاتحمله رواية،وحملها من فلسفة الرؤى الجديدة رؤية جديدة فى كل متوالية، وحافظ على التقنيات التقليدية بشكل يبدو صارماً،لكن الأمر ليس كذلك.
اللافت للنظر أن ثمانية عشر قصة فى هذه المجموعة القصصية،وتنوعت بين الحديث عن البادية والمجتمع المصري،ولم يكرر الكاتب نفسه فى نص واحد،ربما هناك نص أو اثنين غفل فيهما من باب البشرية،أو من باب التجارب التى لم تكتمل بعد،فقد كان هذا النص سابقاً،أو مغرقاً فى القدم،ودفع به الكاتب للنشر.إلا أنه صور العلاقات الجدلية بين البادية والحضر،وبين البادية ونفسها،وبين الحضرية ونفسها،وكذا بحث فى متطلبات الذات ورفض المجموع،وميز بين حالة(الأنا)و(العالم) فى نسيج سردي غير مسبوق ولا مطروق،سواء بتحويل المفردات إلى عوامل نصية،فأصبحت المتواليات خاصة بعبد الله السلايمة.
إن مجموعة (أشياء لا تجلب البهجة) القصصية ،هى ديوان قصص نفسي وشعوري رائد،يستحق دراسة مطولة،حيث أن الإبهام فيها يتفوق على الإعلان.

نقــد


" أشياء لا تجلب البهجة "
الكاتبة أمينة زيدان
الهروب من صحراء اللحظة الراهنة
أمينة زيدان

الشيء الوحيد الذي كان يؤرق قراءتي للمجموعة القصصية" أشياء لا تجلب البهجة" الهيئة العامة لقصور الثقافة  2012 للقاص عبدالله السلايمة هو تلك النزعة المتطرفة لدى الراوي،والتي تصل أحياناً إلى حد التعالي .
يقدم لنا السلايمة عبر مجموعته القصصية،نماذج أصيلة من المجتمع القبلي،ولقد توقفت كثيرا عند الشخصيات التي تتنامى عبر النصوص، ما دفعني للتعامل مع المجموعة القصصية،على أنها متوالية سردية، رواية بطلها الأوحد الراوي،الذي يحكى فصولها من موقعه كمشارك ومحرك للإحداث.شخصية الأب أيضاً لم تتغير، وظلت تتكشف لنا على مدار القراءة ...
في قصة " دعوى لا تحتمل التأجيل " تتصدر مقولة هاملت ( أكون أو لا أكون ) فضاء الصفحة، ما يجعلنا نبنى تصوراً للشخصية الرئيسية التي تتولى الحكى، وهو كما أشرت من قبل راو ثابت يعلى من تقنيات كتابة السيرة الذاتية من خلال المعلومة، ومن خلال إقحام شخصيات واقعية، ما أظنه لم يضف لحساب الكاتب في هذه التجربة الواعدة ،" منذ أن تركت ربوع البادية،وآثرت العيش فى حضن المدينة،يعتبرها أبى ألد خصومه ،ولا يمل من تكرار ندمه على أنه لم يحسن تأديبي، ولو كان قد فعل،لما تجرأت كما يقول على استبدال ثوب بداوتي بثوب مدينة يراه مليء بالثقوب!"ص15 ،
واعتقد أن في هذا فصل بين عالمين،عالم القبيلة والذي يمثل المرجعية للأب،وعالم المدينة المعشوقة للكاتب ...الخ الفقرة ،" كلما تذكر جرحه لكبرياء رضعته ـ مثله ـ من ثدي الصحراء،أمام عروسي "الحضرية"،فى ذلك اليوم  الذى غادرت فيه مضارب القبيلة، يكاد يفقد عقله ندماً على فعلته المتهورة ..." ص16،لا حظ اللهجة المتعالية التى تطغى على أحكام الأب الذي لم يسلم هو قبلا من اسر المدينة.لكنه مازال يحمل عبء الحفاظ على عرق البدو من ثوب المدينة المرقع، فيعلن الحرب ضد زحف هذه المدينة.
فى قصة "إنهم لا يفضلون الغرباء"وقصة "رغبة عدوانية " نجح الكاتب في التعبير عن وضع المرأة، ممثلة في شخصية ضحى /الأخت، وشخصية زهرة التي أظنها امتداداً لها،أما الأم فتتبع عقيدة الرجل ، بل وتدافع عنها،وتنحاز إليها،وبقيت شخصية الزوجة على حالها شريرة قبيحة متقلبة .
" أزاحت عن وجهها بلا خجل قناع جمالها الزائف كاشفة عن قبح حقيقي شكّل ملامحها،وهى تضع زوجها أمام اختيار قاتل،قائلة في جحود:إما أنا أو أبوك ..قصة " للماضي أبعاد أخرى" ص 29
تهيمن على نصوص السلايمة تيمة أنسنة الأشياء،كالشمس وغيرها، وهناك أيضاً النبوءة المترتبة على خبرات تاريخية سابقة،كما أن هناك حنين إلى الماضي،وهرب دائم من صحراء اللحظة الراهنة، أو زمن إنتاج النصوص إلى زمن آخر،" قبل أن يفض قبح العولمة بكارة الصحراء،كان للحب فيها قداسة،إذا ما تجرأ شخص عابث مثلى،يميل منذ صغره نحو العبث بتلك القداسة،عليه أن ينتظر عقاباً رادعاً،ربما لا يقل بشاعة عما كان ينتظر "نور"،بعد أن نجح في إخضاع"نعمة"لأول تجاربه العبثية .. قصة " عبـث " ص25.
يحتوى الكتاب على ثمان عشرة قصة،قسمه السلايمة إلى قسمين: الأول اختار له عنوان " بدويات "، حيث طاف بنا حول ثقافة البدو، التي ينتمي إليها الراوي،واختار للقسم الثاني عنوان " أشياء لا تجلب البهجة"،لم يتغير فيه الراوي، وإنما انتقل بالإحداث إلى فضاءات أخرى، يعلن فيها عن هويته ككاتب،انتقل بنا الكاتب إلى عالمه الموازى الذي خيب كل تصوراته المثالية عن الواقع الثقافي،ليصبح هذا العالم مجرد أشياء لا تجلب البهجة، في إشارات تنتقد الممارسات الفاسدة التى لم يسلم منها المناخ الثقافي بشكل عام .
إن فعل الفرار إلى العالم المجازى.هو فعل دائم، وتيمة أساسية في المجموعة القصية، التى يزداد اعتقادي بكونها متوالية سردية،" أثناء فرارك من إحساسك بالغربة،قد يدفع حسن حظك إلى طريقك من يخفف عنك بعض معاناتك،وقد تتعثر فى سوء طالعك، وتصادف من يضاعف بداخلك ذلك الإحساس القاتل ..." قصة " فراسة" ص69.
فى قصة " دعني احبك " تتلخص أزمة البدوي المثقف ـ "انها الفوضى العارمةص75،"إنهم لا يروننا غير كائنات صحراوية متوحشة يجب عليهم ترويضهاص77،"اعذرني فانا أرى ما لا ترونه ص77،" ولقد شرعوا بالفعل في تنفيذ مخططهم للقضاء على وحشيتنا ... ص77
إن الرؤية التي تساوى المعرفة تبدو من الأشياء التي لا تجلب البهجة، وأخيرا أشير إلى قصة " أحزان جائعة" بتقدير شديد، لظني بان الكاتب تخلص فيها من مشكلات الكتابة، ونجح في التقاط صورة إنسانية عالية القيمة من خلال علاقات جميلة بين الطفل وزوجة أبيه.
   

الأربعاء، 25 يناير 2012

إبراهيم أصـلان..الكتابـة بالألـــم


عبدالله السلايمة

ها هو الموت يصر على الاستمرار في متعة قبضه على أرواح ليست ككل الأرواح في عمقها وثقلها،فما كاد ت قلوبنا تبدأ في التعافي من رجتها إثر رحيل الروائي خيري شلبي منذ عدة شهور ، ونحاول الشروع في لملمة جراحنا،وإعادة ترتيب أوراق حياتنا بنوع من التكاسل ،حتى كادت صدمة خبر اختيار سيد الموت عزرائيل هذه المرة لفيلسوف البسطاء الروائي إبراهيم أصلان تقتلع قلوبنا من جذورها حزناً على فراقه هو الآخر،ليتوقف جريان نهر إبداع متفرد لطالما اقتتنا عليه.
لعل في رحيل أصلان المفاجئ حكمة ما تتجاوز إدراكنا المحدود،لكن ما ندركه أن رحيله أضاف لخساراتنا فجيعة أخرى مركبة، ووجع يزداد عمقاً،وكأنه لا يكفينا ما نعيشه بشكل يومي حتى الثمالة على أصداء أخبار الموت والتخريب والعبث والتآمر..، حتى باتت خلفية وجداننا بلون الالتباس والسواد..

من حوارها مع جمانة حداد ، قالت الشاعرة الأمريكية ريتا دوف:"أؤمن أن أصعب الأمور هي أن نتحدث عن الأشياء البسيطة في حياة الناس اليومية: تلك هي أرقى التعابير الوجودية وأدقها، تلك هي التيمات العليا الحقيقية. أن نتحدث عن فيلسوف أسهل بكثير من أن نتحدث عن عاملة التنظيف في الشارع أو عن بائع الخضر الذي لا يملك ما يكفي من المال ليشتري دراجة لابنه في عيد ميلاده. فيم تفكر هذه العاملة،وكيف يعيش ذلك البائع،وبم يحلمان؟ ذلك هو الموضوع الشائك"،وهذا ما اعتقد أن فقيدنا أصلان نجح بامتياز فى رصده لحياة البسطاء،وآليات تعاملهم مع ما يواجههم من مصاعب حياة،اتسمت بشظف العيش وضيق ذات اليد،فقد استطاع إبراهيم أصلان فيلسوف البسطاء،وكاتبهم الساخر،وعاشق تفاصيلهم، ولغتهم وحواراتهم، أن يصور أدق تفاصيل حياتهم بدقة شديدة،خاصة فيما يتعلق بحياة أهل منطقة الكيت كات، حيث عاش فيها حتى أواخر عمره،تلك المنطقة المواجهة لشاطئ النيل بحي إمبابة، وبالتحديد في شارع فضل الله عثمان الذي خصه بكتاب من كتبه السبعة،وخلق من عالم إمبابة عوالم خاصة رسمها بقدرة إبداعية فائقة،بدت واضحة لنا في أعماله الأخرى:" بحيرة المساء ،"خلوة الغلبان" حيث خرج على تقاليد كتابة الستينات،و" شيء من هذا القبيل"،و"عصافير النيل"،و"مالك الحزين" التي نقلها المخرج داود عبد السيد عام 1991 للجمهور عبر فيلم «الكيت كات»، كإحدى أيقونات السينما المصرية.

لم يحتمل قلبه الضعيف البعد عن النيل ،فلما انتقل الى المقطم مات ،تاركاً لأهل إمبابة كتباً حوت أدق تفاصيل حياتهم،ولنا إرثاً إبداعيا،كان كافياً رغم قلته على إشباع جوعنا في زمن لم يعد يطفو على سطح أيامه غير كل سطحي وغوغائي وغث ..
لو كان الإبداع كما يعتقد الكثيرون بالكم،لكانت كتابات أجاثا كريستي أهم من كتابات شكسبير، لكن الأمر بالنسبة لأصلان كما قال في أحد أحاديثه لم يكن كذلك،فهو لا يعرف أن يتعامل مع نفسه وكأنه ماكينة كتابية ،وهذه الحالة ليست حكرا عليه فقط ، فهي ظاهرة عالمية، فماركيز مثلا بكل أهميته هذه لم يتجاوز عدد رواياته سبع روايات، وهمنجواي ست روايات.
وليس لقناعته الشديدة فقط بأن الكتابة لابد أن تكون تلبية لاحتياج داخلي عند الكاتب،ما يؤدى لأن تلبى احتياجاً لدي من يقرؤها،بل لقناعته أيضاً بأن الوفرة في الكتابة لم تكن هي معيار القيمة،ولأنه كان يكتب بألمه ولا يكتب عنه ،لم ينجز عبر عمره الأدبي الذى امتد لأربعين عاماً غير سبعة أعمال قصصية وروائية،ترجم منها ثلاثة أعمال الى خمس لغات عالمية:" بحيرة المساء،ومالك الحزين،وعصافير النيل"،وحاز من المكانة الأدبية ما أهله للحصول على بعض الجوائز ،مثل:" جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية "مالك الحزين" عام 1989،وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2003ـ 2004،وجائزة كفافيس الدولية عام 2005،وجائزة ساويرس في الرواية عن "حكايات من فضل الله عثمان" عام 2006.

ولم يمنحه سيد الموت فرصة ليتوج مسيرته الإبداعية بجائزة النيل الرفيعة، التى لا تمنحها أكاديمية الفنون المصرية إلا لمن هو جدير بها مثل فقيدنا إبراهيم أصلان ،وفجعنا عزرائيل في مساء السبت السابع من يناير 2012بقبضه على روح أصلان النقية ،ليضيف إلى رصيد خسارات الساحة الثقافية العربية مبدعاً،يعد بحق من أبرز روائييها .
رحم الله المبدع إبراهيم أصلان الذى لم ينحني في يوم ما إلا أمام بهاء النيل،ورفض بشدة الانحناء أمام مبارك المخلوع ،الذى أغواه غروره ،وصورت له أوهامه، أنه يمتلك كل ما على أرض النيل العظيم ، وما تحت سمائه النضرة من عصافير،ولم يلبى دعوته للقائه مع بعض المثقفين في سبتمبر 2010فى قصره المنيف،لإدراكه العميق أن ذلك المخلوع لم يكن يهدف من وراء دعوته للمثقفين غير محاولته تجميل وجه نظامه القبيح،لذا لم يفاجئنا أصلان في تأييده لثورة 25 يناير المجيدة التى أسقطت نظام المخلوع وزبانيته في لحظة استثنائية من تاريخنا ، ليضيف إلى رصيد مواقفه التاريخية موقفاً لا يصح ـ فى اعتقادى ـ للمبدع أن يتخذ غيره .

السبت، 14 يناير 2012

مرثيـــة

 
خيري شلبي
المحكوم له بالحيـاة

عبداللـه السـلايمـة

أن تعيش لثلاثة وسبعين عاماً،قضيتها وأنت ـ كروائي ـ تتغذى على نفسك مثل الكاتوبليباس "حسب تشبيه أورهان باموق"ذلك الحيوان الخرافي الذي يظهر للقديس أنطوان في رواية فلوبير (إغواء القديس أنطون) ،وتشعر بأن كل ما أنجزته في تلك الأعوام لم يكن إلا نوعاً من التدريبات المهنية،وأنك مازلت، رغم انجازك لأكثر من سبعين كتاباً ،والعديد من الدراسات النقدية والتحقيقات الأدبية تتهيأ لكتابة مختلفة تمام الاختلاف عما كتبته سابقاً ؟!،اعتقد إن لم يكن هذا ما يمكن تسميته بتواضع الكبير؟ فلن يكون غير جنون عاشق لكتابة قالت عنها الكاتبة الفرنسية انجريد توبوا في روايتها "ملك أفغانستان لم يزوجنا" أن داءها يكمن فى أنها غالباً ما تمضى دون أن يشعر بها أحد،أو هو خوفك أن يكون مصير الكتابة هو مصير كاتبها أن يمضى دون أن يفجع أحد لرحيله المفاجئ؟!
إن كان ذلك هاجسك فلتطمئن فى سمائك العليا،فكل قرى ونجوع مصر التى طفتها،وكل المدن التى تسكعت فى أزقتها وشوارعها،ودرت على مقاهيها،وكل المهمشين من فقراء القرى والمدن الذين شعرت بآلامهم ورصدت معاناة واقعهم المرير لن ينسوا بساطتك وهدوءك وإنسانيتك وإرثك الإبداعي الذى تركته لنا، فلتهنأ ياعمنا خيري شلبي الكبير بالنعيم في عالمك الآخر الذى تركتنا ،وتركت قلقك لتنعم بحياة طرية فيه. 
عمنا خيري .. يواجه المحبون الحقيقيون دائما مصير الموت كي يستمر حبهم حياً،لعل هذا ما أردت التحقق منه حين تركتنا وغادرت فجأة، ألا تعرف بأنك وضعتنا أمام اختبار صادم أشبه بصدمة جلجامش لحظة موت أنكيدو،لكن عزاء نا في رحيلك الموجع غير ما تركته لنا من كنوز إبداعية ،إحساسنا أنك لم ترد لنا أن نهيم على وجوهنا كما فعل جلجامش للبحث عن معركة نقهر بها الموت الذى اختطفك منا،بل أردت ببساطة شديدة عرفناها عنك أن نثبت مدى محبتنا كمحبين حقيقيين لك.

غادرت فجراً،قبل أن تطمئن أبناءك وأحبتك من الأدباء والمهمشين الذين كانوا ينتظرونك على مقهاك القريب من قبورهم ،بأن انطفاء جذوة الحياة في جسدك لا يعنى ذهابك إلى غير رجعة، بل صعود روحك بحرية نحو عالم آخر أكثر بهجة وسعادة، روح أردت لها أن تترك قلقها وخوفها وتستقل بحريتها وارتفاعها إلى حياة أخرى تكون أكثر طهرا ونقاء وحضورا وحيوية وامتلاء من عالمنا الأرضي العفن.
روح منذ أن دبت فيها الحياة ودوى الوجود بصرختك الأولى في يناير1938 حتى صعودها إلى بارئها في فجر التاسع من سبتمبر الفائت 2011 وهى منذورة للمعاناة.


 
معاناة حياة بائسة وفقيرة لم تخجل من الاعتراف بها ،وبأنها لم تفارقك منذ ميلادك بقرية "شباس عمير" بمحافظة كفر الشيخ  لدرجه عجزت فيها أسرتك عن دفع مصروفاتك الدراسية ما عرضك للتهديد بالطرد من المدرسة الابتدائية،ورغم مجيئك كهبة من السماء لأب طال انتظاره قرابة خمس وعشرين عاماً لمجيء العون والسند له في شيخوخته،إلا أن ضيق حال أسرتك وإحساسك المبكر بالمسئولية أجبراك على العمل في الإجازات الصيفية كعامل تراحيل فى الحقول الزراعية لتوفير نفقات تعليمك.
معاناة عشتها ودفعتك مراراتها للانحياز إلى من شابهوك من الفقراء المهمشين ،فكنت خير نصير لهم ،وأصدق وأروع من كتب عنهم.
ولما احتشدت رأسك الصغير بالخيال الشعبي والسير والملاحم والفلكلور، قررت حملها في وعيك الطفولى والرحيل إلى مكان كالإسكندرية يتسع لولعك بالحكى وسرد التفاصيل الدقيقة ،فتعثرت أثناء تجوالك كبائع لزهرة الغسيل بمقهى "المسيرى"حيث كان يجتمع الأدباء،ذاع صيتك حتى بلغ أديبنا الراحل يحيى حقي فى عليائه فاستدعاك ليتحقق مما سمعه عنك،ولما رأى بعينيه الثاقبتين المبدع الذي كنت تخبئه بداخلك قام برعايتك ومساعدتك في الحصول على وظيفة في وزارة الإرشاد "وزارة الثقافة حالياً" تناسب شهادتك من معهد المعلمين ،فبدأ من حينها يتدفق نهر الكتابة في شرايينك.
ولأنك يا عم خيري كانت لديك قناعاتك المؤكدة بأن"الكتابة هي وليدة المعاناة الحقيقية، تلك المعاناة التي يجب أن يفتش عنها الكاتب بنفسه، يفتش عنها بكل الطرق ويحاول أن يدفع نفسه للدخول في التجارب الجديدة بل والقاسية أيضا"رفضت الانتماء فى الستينات إلى التنظيمات اليسارية حيث يتم صنع الكاتب بناء على مواقفه السياسية وليس موهبته الإبداعية فقررت الابتعاد عن ارستقراطية الثقافة والانحياز للطبقة الكادحة من الفقراء والمهمشين،واخترت مكاناً قريباً من مقابر البساتين بحي مصر القديمة قمت باستئجاره وجعله مكانا خاصا بكتاباتك،فشهد هذا المكان ميلاد العديد من أعمال روائية،رصدت فيها واقع أناس لا يمكن تخيلهم في أماكن أخرى غير التى رصدتها بلغة حكائية متميزة ، لا يقدر على الكتابة بها غير روائي من طراز فريد مثلك، لغة لطالما شدتنا بشغف إلى عوالمك الغريبة وشخصياتك الإبداعية التى تطل علينا من الأزقة والحواري،وتشبهك إلى حد بعيد .  
كيف ننسى مجدك الذى صنعته بيدك،ومكانتك التى حجزتها بين عمالقة الأدب،كيف ننساك وقد شكلت إبداعاتك الروائية والقصصية علامة فنية فارقة طوال النصف الثاني من القرن العشرين حتى وقتنا الحاضر،كيف ننساك وقد قدمت للمكتبة العربية عناوين كثيرة تنبض بالحياة مابين روايات"السنيورة، الأوباش،الشطار،الوتد، العراوى،فرعان من الصبار،موال البيات والنوم،ثلاثية الأمالى (أولنا ولد وثانينا الكومى وثالثنا الورق)،بغلة العرش، لحس العتب،منامات عم أحمد السماك، موت عباءة،بطن البقرة، صهاريج اللؤلؤ،نعناع الجناين،صالح هيصة،نسف الأدمغة،زهرة الخشخاش، وكالة عطية،صحراء المماليك، اسطاسية".
ومجموعات قصصية"صاحب السعادة اللص،المنحنى الخطر، سارق الفرح،أسباب للكى بالنار،الدساس ،أشياء تخصنا،قداس الشيخ رضوان"، ومسرحيات:"صياد اللولي، غنائية سوناتا الأول،المخربشين".
واكتشافات إبداعية ثمينة،ودراسات،وتحقيقات"محاكمة طه حسين: تحقيق في قرار النيابة في كتاب الشعر الجاهلي،أعيان مصر"وجوه مصرية"،غذاء الملكات "دراسات نقدية" ،مراهنات الصبا"وجوه مصرية"،لطائف اللطائف"دراسة في سيرة الإمام الشعراني"،أبو حيان التوحيدي"بورتريه لشخصيته " ،ودراسات في المسرح العربي،عمالقة ظرفاء،فلاح في بلاد الفرنجة"رحلة روائية"،رحلات الطر شجي الحلوجي،مسرح الأزمة"نجيب سرور"،فضلاً عن رئاستك لمجلة الشعر ( وزارة الإعلام) وسلسلة مكتبة الدراسات الشعبية (الهيئة العامة لقصور الثقافة).
إذا كان الإله يا عم خيري قد قدّر مماتك،فقد قدّرت لك كتاباتك الحياة ،حياة لن يتوقف نبضها في ما كل ما قدمته من كتب ،وفي ما تم تحوي له  من روائعك الروائية إلى أفلام سينمائية،مثل: روايات   "الشطار،سارق الفرح،وكالة عطية،الوتد،الكومى عن ثلاثية الأمالى ،،وما ترجم لك من رواياتك إلى اللغات: الروسية والصينية والإنجليزية والفرنسية والأوردية والعبرية والإيطالية.
وما قدم عن إبداعاتك العديدة  من رسائل للماجستير والدكتوراه في العديد من الجامعات المصرية والعربية.
كيف ننسى اكتشافاتك المسرحية،فنحن مدينون لك بالفضل في اكتشاف أكثر من مائتي مسرحية مطبوعة في القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين،قمت بتحقيقها في حديث بإذاعة البرنامج الثاني ( البرنامج الثقافي حالياً ) تحت عنوان (مسرحيات ساقطة القيد) ضمن برنامج كبير كان يقدمه الروائي بهاء طاهر،وتحقيق نص (فتح الأندلس) المسرحي للزعيم الوطني مصطفى كامل ، ونشره في كتاب مستقل بنفس العنوان صدر عن هيئة الكتاب في سبعينيات القرن الماضي.
 وندين لك بالفضل فى اكتشاف مسرحية(الراهب) للعلاَّمة الشيخ أمين الحولي الذى كتبها لجوقة عكاشة ،كذلك اكتشافك لكتاب (محاكمة طه حسين) .
وأخيراً إحيائك فن البورتريه في الصحافة المصرية،حيث قدمت في هذا النوع من الفن مائتين وخمسين شخصية من نجوم مصر في جميع المجالات الأدبية والفنية والسياسية والعلمية والرياضية، فى ثلاثة كتب " أعيان مصر، عن الدار المصرية اللبنانية"و" صحبة العشاق، عن الهيئة العامة للكتاب"إضافة إلى كتاب "فرسان الضحك، عن دار التحرير للطبع والنشر".
ولا يمكننا نسيان جوائزك التى حصلت عليها رغم تأخرها كثيراً:" جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1980- 1981،وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1980 – 1981،جائزة أفضل رواية عربية عن رواية "وكالة عطية" 1993،جائزة التفوق الأولى لإتحاد الكتاب عام 2002، جائزة أفضل كتاب عربي من معرض القاهرة للكتاب عن رواية صهاريج اللؤلؤ 2002،جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن رواية وكالة عطية 2003، ،وأخيراً جائزة الدولة التقديرية في الآداب ‏2005‏.
ولو لم تتعجل في سفرك لربما توجت مشوارك الحافل بالإبداع بحصولك على جائزة نوبل للآداب التى رشحتك مؤسسة "إمباسادورز" الكندية للحصول عليها ، لكنك يا رائد الفانتازيا التاريخية فى الرواية العربية الحديثة المعاصرة ،كما أطلق عليك النقاد ،وأحد رواد الواقعية السحرية،ونصير المهمشين،رأيت أن تعجل في سفرك قبل طلوع النهار لتمنحنا برحيلك القاسي فرصة ثمينة لتأكيد أننا لن ندرك  حقيقة موتنا إلا من خلال علاقتنا بموت عزيز على قلوبنا مثلك ترك إحساسه بالحياة ليعيش تجربة أخرى منفصلة ومغايرة لكل تجاربه السابقة .
ولأن الموت يا عمنا خيري لا يناقض الحياة بل هو وجهها الأخر،فلتجدد نفسك عن طريق موتك وانبعاثك لتحيا حياة جديدة،فربما استطعت هناك التهيؤ بشكل يمكّـنك من كتابة مختلفة عما كتبته سابقاً كما كنت تتمنى .
فوداعاً يا عمنا خيري شلبي إلى أن نلتقي ، حينها سنعاتبك عتاب الأحبة على الغربة القاتلة التى سببها لنا رحيلك المفاجئ.
......................................
نشرت فى مجلة الكاتب ـ اتحادكتاب مصر ـ العدد الأول ( اكتوبر 2011 )


الجمعة، 22 أكتوبر 2010

نـدوة

أقام نادي أدب العريش "الأثنين 18/10/2010 " ندوة نقدية بمكتبة العريش العامة وذلك لمناقشه رواية "قبل المنحنى بقليل" للقاص عبدالله السلايمة .
ناقشها د.إبراهيم عبد العزيز،أستاذ البلاغة والنقد الأدبى بجامعة قناة السويس،ومن الأدباء النقاد:حاتم عبدا لهادى السيد ، محمد السيد أبوماضى،حسونة فتحي،الشاعر د/ يحيى قدرى ،زين الشريف،احمد أبوحج، أشرف حسونة ،عوض عبدالستار،فاطمة موسى،وأدار الندوة محمد ناجى رئيس نادى الأدب .
افتتح الشاعر والناقد حاتم عبدالهادى السيد الندوة بكلمة أشار فيها إلى أن الساحة الثقافية والأدبية تعانى ندرة فى مبدعى ما أسماه بأدب البداوة،أو كما يعرف بأدب الصحراء.وفى اتهام صري للمؤسسة الثقافية والحركة النقدية بل والاعلامية بالتقصير فى حق مبدعين آخرين،قال:"أنه يرى ان هؤلاء الآدباء لا يقلون شأناً عن الروائيين ميرال الطحاوى ،وحمدى أبوجليل اللذان يحتلان مكان الصدارة لهذا النوع الأدبى.
وتساءل:أين عبدالله السلايمة،ومسعد أبوفجر،وسعيد رفيع،وآخرين قال لاتحضرنى الآن اسماؤهم؟!
وفى سياق حديثه عن رواية قبل المنحنى بقليل،قال:"أن كاتبها عبدالله السلايمة استطاع أن يؤطر لفكرتين أساسيتين،وهما:إعادة انتاج الموروث الثقافى السيناوى،وفكرة المقاومة،إلى جانب إعلاء دور المرأة البدوية فى صنع القرارات غير الملزمة بالطبع للرجل فى الباد ية.
كما ترصد الرواية موقف أهل سيناء من اتفاقية "كامب ديفيد" وكذلك صدمتهم بعد عودة سيناء من رفض قبول ابناء سيناء للكليات السيادية كالحربية والشرطة.

وعلق د/ابراهيم عبدالعزيز على هذه المشكلة،قائلاً:"اعتقد أن مشكلة ابناء سيناء لاتكمن فى قبولهم لمثل هذه الكليات ،بل فى سوء تقدير الدولة لدورهم البطولى فى كافة الحروب التى خاضتها مصر ضد اعدائها المتربصين بها على الدوام"وهذا مافضحته رواية" قبل المنحنى بقليل " لعبدالله السلايمة،هذه الرواية التى حملت لنا فى مجمل احداثها الكثير من الصدمات،أذكر منها على سبيل المثال:رفض دخول ابن الشيخ فراج"كبير العشيرة ورمز الوطنية" الكلية الحربية!،مساواة الدولة بين الوطنى والخائن!،اتفاقية "كامب ديفيد" .
وأضاف:"لذا أرى أن لغة الرواية الخشنة كانت مناسبة تماماً للتعبير عن تلك الصدمات ،وأرى أن الكاتب استطاع صياغة الأسلوب بشكل يناسب الأحداث وطبيعة الصحراء، أما نهاية الرواية فجاءت مفتوحة لتلل على أن هناك أحداثاً أخرى لم يتحدث الكاتب عنها.

وتحدث حسونة فتحى حول عنوان الرواية،ودلالة كلمة "المنحنى مكانياً وزمانياً،وأشار إلى عبارة الافتتاح المقتبسة من رواية الخيميائى لبلولو كويلهو "يابنى اشتر قطيعاً من الماشية وأسرح فى العالم ،حتى تجد أن قلعتنا هى الأهم،وأن نساءنا هن الأجمل"مستحضراً تطبيق العبارة على سيناء،وأشار إلى أن كلاسيكية لغة النص تشير إلى صدق فنى يوضح معايشة الكاتب عبدالله السلايمة للفترة الزمنية لأحداث الرواية.

وشبه محمد السيد أبوماضى "المنيا"رواية "قبل المنحنى بقليل" بحقل ألغام قال:" أنه قابل للأنفجار فى وجوهنا فى أى لحظة بأزمات طرحتها الرواية،حيث يمثل"نور"الآزمة الوجودية،وتمثل كل من "راضية وسعيدة"ازمة اجتماعية،ويمثل الشيخ فراجالأزمة الوطنية التى تحتاج من الجميع وقفة صادقة وحيادية وجادة.




الجمعة، 30 يوليو 2010

أهالي سيناء قبل المنحني

"‬قبل المنحني بقليل‮" ‬هو عنوان الرواية التي صدرت مؤخراً‮ ‬للكاتب السيناوي عبد الله عطية السلايمة‮.‬
الرواية التي صدرت علي نفقة المؤلف في‮ ‬103‮ ‬صفحة،‮ ‬ترصد حياة أهل سيناء أثناء الاحتلال الإسرائيلي بعد نكسه يونيو،‮ ‬وتركز تحديداً‮ ‬علي الشيخ فراج الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي،‮ ‬ومعروف الذي فضل المهادنة والتعاون مع الاحتلال بل وتاجر في السلاح وهو ما عرضه للإصابة في ساقه‮. ‬تتعقب الرواية سيرة كلا الشخصيتين حتي تحرير سيناء لتبدأ مرحلة جديدة،‮ ‬وتنتهي الرواية برصد التناقض في موقف السلطة،‮ ‬فحينما يقرر الرئيس تكريم أبطال سيناء من العرب يتم تكريم معروف وفراج معاً،‮ ‬وهو الأمر الذي يجعل الشيخ فراج يشعر بعدم المساواة ويتزايد الأمر حينما يتم رفض طلب ابنه بالالتحاق بكلية الشرطة‮ ‬.
..................................
نقلاً عن صحيفة أخبار الأدب ـ 24/7/2010