"أشياء لا تجلب البهجة"
علاقـات
نصيـة
د. رمضان الحضري
ربما يكون تناول مجموعة " أشياء لا تجلب البهجة" للقاص عبدالله
السلايمة، طبقاً لرؤية عربية للنص الأدبي نظرية جديدة، فكثير من الأفكار تمهد أو تكون اختراعاً، ولا يدرى المستخدمون
لها.
والعلاقات النصية، أقصد به فهم النص من خلال شبكة العلاقات المكونة للنص،من
مفردات لغوية تحولت إلى عوامل نصية،ومن جمل مركبة " متواليات نصية" ومن
تشكيلات جمالية،وتقنيات تناول " الإيقاع النصي"،وبالتالي سوف أتناول عبر
المجموعة إلى : العوامل النصية وإعادة التوظيف ـ المتواليات النصية بين النحو والنص ـ الإيقاع
خصوصية وتقليد.
أولاً: العوامل النصية وإعادة
التوظيف : تأتى مجموعة "أشياء لا تجلب البهجة" للقاص والروائي عبدالله
السلايمة لتقدم نصاً يجمع بين الموهبة والاحتراف،ويقوم بتحويل الى عوامل نصية،تؤدى
وظيفة جديدة،ومن منطلق( نظرية العلاقات النصية) فإن تناول مجموعة قصصية فى مقال أو
بحث مختصر غنما هو هدم للنص،وعدم فهم لماهية النقد، حيث أن الجدل بين النقد والنص،هو
علاقة المريد الذى يبغى الوصول إلى المحال.
والحديث العام عن القصص،إنما هو منهج غير عربي،فالعربي يحب لغته،ويدعو إلى الإيجاز
وهو يفصل، وبالتالي سوف اكتفى بقصة واحدة من المجموعة ،ترى أن هذه القصة تجمع المحاور
العامة لفهم القاص عبدالله السلايمة لماهية القصة القصيرة،فالكاتب هنا لا يكتب
القصة للتسلية،أو ليبرز معاناته الشخصية،أو ليسجل واقعاً كان أو آنياً،إنما
الكتابة عنده نوع من الرصد للابتكار،يرتبط هذا الرصد بالواقع بنسب مختلفة،وأحداث
تحيا وتموت،ولكن يصر الكاتب على أن واقع قصصه فى ساحة الأوراق ،وزمانه فى لحظات
القراءة ،والمدى متصل حسب التفكير والتأثير.
وتأتى أهمية السلايمة من مخالفة لما يسمى بقوانين الكتابة،فالقصة القصيرة
قالوا ومضة،ودوامة فى النهر، وصورة مركز من ألبوم كبير،أو دقائق من فيلم طويل،خالف
عبدالله السلايمة كل لك ، واعتمد على تقنيات اللغة فى وصف فيمتو ثانية
لإحساس،والتدقيق فى حركة الشعور،وحالات التنامي فى الفكر الناتج عن وجدان مدرك ليأتي
النزوع إلى النتائج مسبباً وغير متجانس،وتتوافر المقومات للمفردة لتصبح عاملاً فى
النص،مثلاً يقول الكاتب فى قصة " استباحة": ( في ركن من تلك المساحة
الضيقة التي تفصل مابين مقهى"العروبة " والشارع المكتظ بالعربات
والمارة، اتخذت لى مكاناً،اعتقدت أنه يحفظ لى استقلالي،ويسمح لى باستراق نظرات
عابرة لفتيات ونسوة يقطعن الشارع، وجلست مستسلماً لإغواء خيالي، يحلق بى عبر
فضاءات أحلامي الجوعى حيناً،وحيناً آخر يعيدني لواقع،زاد من مرارة قسوته مجيء
" قاسم".
" كالعادة وبلا استئذان،وبنفس التقطيبة سحب كرسياً وجلس فى مواجهتي
،ودون أن يلقى علىّ بالتحية،قال بنبرة دائن ينتظر رد دين مستحقاً : "عاوز
أشرب شاى". " فى محاولة يائسة للتخلص منه،أشرت على الفور إلى
النادل،فجاء بعد لحظات بكوب الشاي،وضعه بيننا ،ثم انصرف لشأنه،بينما أجبرت على
مبادلة"قاسم" ثرثرة فاترة،لم يقطعها غير سؤال مباغت، ألقى به مثل قنبلة
انفجرت فى وجهي ،قائلاً:بم تحلـم؟!
ثم استند بمرفقيه إلى الطاولة،مستمتع بمظهر الحيرة البادية على وجهي من
سؤال اخطبوطى لم انتظره.
اجتهدت أغالب انفعالاتي،فيما كان يستنفر حواسه مصغياً.
حطت حشود غربان أوجاعي على الطاولة أمامي ،من بينها تناولت بيد مرتعشة
فنجان قهوتي "السادة"، شربت منه رشفة،نظرت بعيداً حيث الفراغ
اللانهائي،أحاول انتزاع روحي المغمورة بخيبات آمال بالغة،من قلب عتمة تواصل فرض
حصارها حولي..، وفى حالات مماثلة لمثل ما أنا عالق بها،تنجح فى إحكام قبضتها على
عنقي،فأكون حينها قادراً على القتل .
اقتلعني صوته البغيض من دائرة التفكير فى الإقدام على ارتكاب جرم لا أسعى
إليه،وهو يحثني لمواصلة حديث مللت مسايرته فيه ،لكنه ما لبث أن أعادني إلى جوف تلك
الدائرة ،بإصراره بشكل مستفز على ضرورة سماع إجابتي على سؤاله .
فأجبته فى أسى بالغ ،قائلاً:
ـ أحلم ببحر، على شاطئه أجلس، وإذا ما مللت البوح وملني، أتحرر من ملابسي،
وفى عرى كامل انطلق ركضاً عبر اتساع الصحراء..
وكأنه يستدرجني لقتله بالفعل،قطب حاجباه،وأخذ ينظر إلىّ بشيء من
الاستغراب،راسماً على جبينه تعابير استنكار،ثم قال بصوت حملت نبرته اتهام صريح
بمدى تفاهة أحلامي،وسطحية تفكيري:
ـ أهذا كل ما تصبو إليه
؟!
وحالت نظرات زبائن المقهى التى تحاصرني دون تحقيق رغبتي الجامحة فى قذفه
بكوب الشاي،وأجبرتني على التحكم فى زمام غضبى .
حاولت التقاط أنفاسي المرهقة،ثم أجبته فى احتقان مفعم بالسخرية، قائلاً:
والكارثة ـ يا هذا ـ ليست فى بساطة أحلامنا،بل فى عجزنا التام،وفقداننا الشجاعة
على تحقيقها..! )
الاستباحة هى مطلب أباحه غير المباح،فهي انتهاك للأعراف والقوانين بعد
الشرائع،إذن فالكاتب سوف يتجادل حول أحداث وأشخاص مخالفة للشرائع والأعراف
والقوانين . فما هي؟! لا شيء...،إذن تحولت مفردة استباحة إلى عامل فى النص،حيث
أنها تخلت عن معناها الرئيس فى اللغة لتأخذ معنى جديداً،لا يمكن الكشف عنه إلا بعد
تناولنا للعوامل النصية والمتواليات والإيقاع،لتبين لماذا استباحة؟..
يمتلك السلايمة من القدرة الإبداعية والإبتكارية ما يؤهله للخروج من عبادة
التنميط،لكنها رهبة التجديد،والخوف من هجامة النقد المعلب،والمتفيهقون فى
الاستيراد .وهذا ما دعاه للبداية بالتقليد قى وصف المكان،وعلى الرغم من محافظته
على التفكير النصي،إلا أنه يختار العوامل التى تجعله مبتكراً من القاع،إلى أعلى
موجة فى المحيط. ( فى ركن من تلك المساحة الضيقة التى تفصل ما بين مقهى العريش
والشارع المكتظ بالعربات والمارة)هذه متوالية أولية،حرص فيها على التقليد لأسباب
سالفة،وبين التناقض بين مقهى العريش كمكان ، والعربات المارة كمنفصلين عن المكان .
أو مستجدات طارئة لكنها تقيم علاقة الاتصال / الانفصال ،ويمكننا ملاحظة ذلك من
العوامل ( المسافة الضيقة ـ تفصل ـ ما بين مقهى العريش والشارع ... ).
واستخدام القاص للعوامل الحرفية على سبيل المقارنة مرة،على سبيل التتابع
أخرى. فحرف " الواو " جاء للمباينة والمقارنة فى ( ما بين مقهى العريش ة
والشارع)،ونفس الحرف جاء للتتابع فى ( العربات والمارة).
( اتخذت لى مكاناً ،اعتقد ت أنه يحفظ لى استقلالي ،ويسمح لى باستراق نظرات
لفتيات ونسوة يقطعن الشارع)،الاتخاذ هو التكلف فى الأخذ،بمعنى الاجتهاد والتفكير
والمحاولة والاختيار، وبالتالي فهو غير المعتاد والملتزم به . وتأتى العوامل
متعالقة ببعضها البعض ،فالاتخاذ سبقه اعتقاد فى الفكر وتأخر فى المتوالية،من باب تقدم
النتائج لأهمية الأسباب،فالعامل اعتقدت مرتبط بالعامل اتخذت . والعامل يحفظ مرتبط
بالعامل مكاناً ـ وكذا العامل يسمح،اما العوامل الأخرى(فتيات ـ نسوة ـ يقطعن)فهي
مرتبطة بالعوامل فى المتوالية الأولى (الشارع المكتظ).وهكذا يعتمد القاص على
انصهار واندماج العوامل ليصبح الناتج نصاً بإحداثيات جديدة،يتمكن فيه من إقامة
رؤوس لجسور سرد عربي جديد . فهو يعتمد الإمكانات التقليدية لصناعة نص
جديد،واعتماده لهذه الإمكانات من باب انتاج معدن جديد من مكونات قديمة بنسب مختلفة
عما كان يستخدمه السابقون.فمثلاً من المعروف أن الفعل يزيد تعدد الأحداث ،ويزيد من
سرعة عجلة السرد،وحينما يكون القاص له القدرة على استخدام الفعل بنسب أكبر من
الاسم والحرف،وهذا ما دمره السلايمة بالكلية،حيث أنه عدد الأحداث، وزاد من سرعة
السرد ،وضيق الحدود فى استخدامه للفعل،فالنص الذى ذكرته سابقاً من قصة (استباحة)من
قوله:"فى ركن من تلك المساحة.. إلى قوله:الشجاعة على تحقيقها)..يشتمل على
النسب التالية: نسبة الاسم إلى الحرف 3:4 تقريباً،ونسبة الحرف إلى الفعل 1:3
تقريباً،ونسبة الحرف إلى الفعل 1:2 تقريباً،زيادة نسبة الفعل تزيد حركة السرد،إذن
قدرة القاص على تحويل المفردات إلى عوامل جديدة فى النص تجعل المقاييس النقدية
الثابتة، وبخاصة المعلبة والمستوردة لا جدوى لها،حتى لو كان المتكلم بها من هو!!
ـ المتواليات النصية بين النحو
والنص: ويقصد بها طريقة تتابع العوامل،وكيف استطاع القاص عبدالله السلايمة إعادة
توظيف العوامل النصية لتكون متوالية على نسق جديد،لا تتشابه مع المتواليات فى نصوص
أخرى،ولا فى النص الموردة فيه،وفى ذلت الوقت متعالقة مع غيرها من المتواليات أو
العوامل الكبرى التى يقامر النص على إبرازها.
وقد استطاع السلايمة أن يصنع مجموعة من المتواليات المنتجة للنص،والمحافظة
على تنسيق التقنيات الإيقاعية بمنظومة متكاملة،وقد سقت مقطعاً يقدم المنتج فيه ثماني
متواليات نصية، يتخللهم حوار،استباح كل الحريات الشعورية
والحسية،والانفعالية،فيصور الكاتب سارداً بضمير المتكلم(أنا)،ومتحاوراً بضمير
الغائب(هو)،وعند تقديم الحوار يصبح الضميران(أنت).وتبدأ المتوالية الأولى (بالعامل
النصي في)،والبدء بعامل من الحروف تعنى أن هناك(عاملاً نصياً،أو عدة عوامل نصية)قد
حذفت،هذا من باب صحة النحو عند العرب.فالبدء في المتوالية الأولى بعاملين في النحو
(جار ومجرور)إحالة القارئ إلى متعلقات سابقة، وهنا يسمح الكاتب للمتلقي بأن يشاركه
صناعة النص، وتصبح عدد المشاركات بعدد الذين تلقوا هذا النص.
وقد استفاد القاص السلايمة من إمكانات البلاغة العربية القديمة،وخاصة فى
باب (التقديم والتأخير)،وجاءت الاستفادات فى السرد والحوار،فعلى سبيل المثال يقول
سارداً: (سدت محاجري بالدموع)وهنا من باب تقديم المفعول على الفاعل،فلم ينتبه
الكاتب للدموع إلا بعد أن سدت محاجره،وكان هذا سبباً صحيحاً ،لتأخير كلمة
الدموع،حيث أنها المسئولة عنه .
وفى الحوار):
أحلم ببحر على شاطئه أجلس)فهذا من باب فصل الصفة عن الموصوف،والجملة تركيبها الطبيعي
حسب التراتب النحوي (أحلم ببحر أجلس على شاطئه)،لتصبح جملة (أجلس) وصفاً للبحر،حسب
القاعدة النحوية( الجملة بعد النكرات صفات،وبعد المعارف أحوال)،فتأخير كلمة
الصفة(أجلس)،من باب بيان الغاية،فجاء الفصل بينهما وبين موصوفها(شبه كمال اتصال).
ثالثا:الإيقاع خصوصية وتقليد:
حينما يهتم البحث بالإيقاع ،فأنه لا يبنى على فراغ،ولا يتفق مع كل ما
سبق،باعتبار أن الإيقاع هو تقنية التشكيل،والمنصح عن خطوات التراتب والإيقاع
والانخفاض فى النص، كما انه المنظم لزمنية الأحداث،والمحور والمكان.
وقد استطاع القاص عبدالله السلايمة أن يخترع واقعاً،والأهم من ذلك،أنه
استطاع أن يقنعنا بقبول هذا الواقع من خلال الإيقاع النصي المتراكب والشفاف،فهناك (مقهى
العريش ـ فاصل بين المقهى والشارع ـ الشارع للفتيات والنسوة ـ الاستسلام للفكر
السىء ـ دخول قاسم ـ جلوس قاسم أمامه ـ طلب الشاي ـ ثرثرة بالإكراه ـ سؤال قنبلة).
المحاولة الدائبة من الكاتب أن يجعل الأهداف غير معتادة،وتأتى النتائج كذلك
غير مرضية،وكأنه يقول أن الخروج عن المألوف يأتي نتيجة ضد المطلوب.
فالجلوس على المقهى للاستراحة وتناول المشروبات،هو أراد أن ينظر إلى النسوة
والفتيات،أنه يبحث نظرة رقيقة،ووجه ناعم،دخل عليه صديقه قاسم،أنه يحلم بكلمة تريح
نفسه،وتخفف الوطء عن عقله،ألقى عليه صديقه بسؤال كقنبلة،إنه يريد التخلص من
قاسم،كان السؤال اخطبوطى فابتلعه بكامله،الأفكار تكلمت بداخله وسمع صوتها،تناول
رشفة من كوب الشاي ليثبت أن له قدرة على هذا الكوب فى أخذه ورده إلى مكانه.
هذا الصراع المحتدم بين الرغبة والنتائج المضادة لها،جعل غرفة النص فى مد
وجزر محتدمين ،وارتفاع وسقوط متلازمين،مما جعل الإيقاع النصي مجموعة من الأصوات
الرائعة،متناقضة فى أدائها ومع مستثيرات هذا الإيقاع يشعر المتلقي أنه يقرأ (قصة
قصيرة)عادية جداً.
رغم أن الكاتب قد حملها من فقه التضاد ما لاتحمله رواية،وحملها من فلسفة
الرؤى الجديدة رؤية جديدة فى كل متوالية، وحافظ على التقنيات التقليدية بشكل يبدو
صارماً،لكن الأمر ليس كذلك.
اللافت للنظر أن ثمانية عشر قصة فى هذه المجموعة القصصية،وتنوعت بين الحديث
عن البادية والمجتمع المصري،ولم يكرر الكاتب نفسه فى نص واحد،ربما هناك نص أو
اثنين غفل فيهما من باب البشرية،أو من باب التجارب التى لم تكتمل بعد،فقد كان هذا
النص سابقاً،أو مغرقاً فى القدم،ودفع به الكاتب للنشر.إلا أنه صور العلاقات
الجدلية بين البادية والحضر،وبين البادية ونفسها،وبين الحضرية ونفسها،وكذا بحث فى
متطلبات الذات ورفض المجموع،وميز بين حالة(الأنا)و(العالم) فى نسيج سردي غير مسبوق
ولا مطروق،سواء بتحويل المفردات إلى عوامل نصية،فأصبحت المتواليات خاصة بعبد الله
السلايمة.
إن مجموعة (أشياء لا تجلب البهجة) القصصية ،هى ديوان قصص نفسي وشعوري
رائد،يستحق دراسة مطولة،حيث أن الإبهام فيها يتفوق على الإعلان.